البيتكوين في حوض السمك
اتصلت بي مديرة نادي الخطابة لتخبرني أن مسابقة النادي ستكون في الأسبوع المقبل، وقد سجلت اسمي في قائمة المشاركين، بدا لي أنها فترة قريبة جداً لأن أي خطاب أمام الناس يحتاج إلى جهد وتدريب ومحتوى وأن تمتلك أسلوب مميز في الإلقاء ولغة الجسد وتغير من طبقات صوتك وعليك أن تعلم مسبقاً من هو جمهورك وإلى من توجه الخطاب. أقول بصراحة لم يكن يهمني الفوز بالمسابقة لأنني أساساً لم أنضم لنادي الخطابة للفوز بل لأنها هواية عندي، ولكن لشغفي في استلهام بنات الأفكار والإطلاع على أفكار الآخرين،
ولكي أكتسب بعض المهارات والتكنيك كأن أكون مقنعة في حديثي ويصدقني الآخرين، جلست في مكتبي أحاول أن أستلهم خيوط الفكرة، وكانت أغلب المواضيع التي طرحت سابقاً في النادي، تتحدث عن الإرادة والإصرار، التحفيز الذاتي والحماس، وقصص عن النجاح، أو كتب الادارة والقيادة والموارد البشرية، وكتب عن العادات وإدارة الوقت والتغير..وباشرت بالبحث في المواقع الإلكترونية وببعض الكتب كي أجد موضوعاً مميزاً، أو عنواناً شيقاً أكتب عنه، فلم أجد ضالتي، ثم ارتأيت أنه من الأفضل أن أطوي أفكار الآخرين، وألتفت عما بداخلي من أفكار وخواطر، وفي غرفة مكتبي حيث أجلس، يوجد مزهرية فيها نبتة البامبو الخضراء، وبجانبها حوض سمك صغير يبعث على الراحة النفسية، هذه الأشياء الصغيرة توحي بالطمأنينة وتضيف للغرفة رونقاً!! تذكرت المثل الذي يقول أنه من الأفضل أن تتمتع بأشيائك الصغيرة، فمن يدري ربما في يومٍ ماتصبح كبيرة..!! وجال في فكري أن أكتب عن الاحتكار الذي تمارسه الشركات الكبيرة وأن البقاء للأقوى، وأن السمك الكبير يأكل السمك الصغير.
وهذه الشركات الكبيرة ذات النفوذ الكبير تغمر الشركات الصغيرة الضئيلة الرأس مال وتميتها حتى قبل ولادتها وأنه من المفترض أن نعطي فرصة للمبدعين الصغار وأفكارهم!! وجدتها فكرة مناسبة وتلامس واقعنا. أليس كذلك؟ ووضعت عنواناً لخطابي: السمـك ونبتة البامبـو وسأشارككم باختصار ما كتبته لمسابقة الخطابة: القصة تحكي عن معلمة مادة العلوم، لديها مسؤولية عائلة كبيرة، ذات يوم وقفت أمام طلابها في الصف الثاني تقوم بتجربة داخل المختبر ترتدي المانطو الأبيض ووضعت على الطاولة حوض السمك بداخله سمكة برتقالية تجذب انتباه الطلاب، ثم وضعت في زاوية المختبر مزهرية نبتة البامبو الخضراء الجميلة، وأخذت تشرح لهم عن السمك وجسم السمك استطاعت بمهاراتها أن تجذب الطلاب للمشاركة في الدرس، فهي تفضل التعليم المخبري عن التعليم النظري. تسألهم: مم يتألف جسم السمكة؟ وأين تعيش؟ وماذا تأكل؟ ثم قالت لهم بصوت حزين: انظروا جيداً هذه السمكة وحيدة وحزينة!! فلنزين لها حوضها بنبتة البامبو، ونرش لها بعض الطعام من علبة الطعام الخاصة بالأسماك..وأخيراً..طلبت منهم أن يدونوا ملاحظاتهم عن هذه التجربة.وفجأة قاطعها أحد الطلاب الأثرياء بعفوية: انظري يا معلمة.. لقد أصبح لنبتة البامبو شعراً أطول وأكثف!! نظرت إليه المعلمة لبرهة،جحظت عيونها، هي تعلم أن انكسار الضوء على الحوض جعل من جذور نبتة البامبو تبدو أكبر مما هي على حقيقتها! أسعفتها بديهتها لتقول: يا إلهي..!! انظر إلى علبة الطعام لقد أحضرت خطأً علبة بودرة تطويل الشعر بدلاً من غذاء السمكة..أشكرك يا ابني على ملاحظتك الذكية، أنت ولد ذكي جداً وتستاهل درجات عالية!!
هذه البودرة هي صنع يدي لتجميل الشعر ولكي يجعلك تبدو وسيماً جداًً ..والتفت نحو الطلاب قائلة :يا طلابي المبدعون.. أنتم من قمتم بهذه التجربة وشاهدتم أثرها بأنفسكم هذا المنتج هو اكتشافكم أنتم!..وباستطاعتكم أن تشتروا منه ونصنع المزيد منه للأمهات سيفرحون بها، وستحصلون على درجات كاملة! منذ ذلك الحين بدأت تبيع في منتجاتها التي ابتكرتها بالفعل وقامت بتركيب المواد وخلطهم حسب دراستها في الجامعة..كانت مبدعة.!! وببساطة شديدة هذه المنتجات اذا لم تنفع فهي لا تضر.. وبدأت ببيع الكريمات والبودرة ومغذيات الشعر.. ويصدقونها الأطفال ويشترون منها لأمهاتهم ويحصلون على علامات أفضل، ونظافة أكبر. فرحت المعلمة بإنجازاتها و استطاعت أن تنتقل إلى منزل أكبر و تهيء ورشة صغيرة لتعبئة كريماتها الخاصة بها والزيوت العطرية والبودرة ذات الرائحة الزكية. واستطاعت أن تنمي تجارتها شيئاً فشيئاً. ولكنها لم تستطع الحصول على ترخيص على تجارتها بسبب غلاء التراخيص. وفي غضون سنة واحدة جاءت الشرطة على منزلها واعتقلتها. المسكينة حاولت أن تبرر لهم أنها موهوبة ومبدعة وماهرة في صنعتها.. أبت نفسها أن تسترحمهم وتثير شفقتهم بأن لديها ظروف صعبة .. وفي النهاية، ختمت خطابي بالصعوبات التي تعانيها المنشآت الصغيرة، والمبدعون الصغار، واحتكارالسوق من قبل الشركات الكبيرة فقط حسب قانون السوق وقانون السمك الكبير يأكل السمك الصغير وانتهى الخطاب بالتصفيق وعلى الرغم من أنني لم أفوز بالمسابقة لعدم قدرتي على الإلقاء الجيد، فالإلقاء له أصول. ولكنهم أجمعوا أن المحتوى جيد جداً وفيه نوع من التفكير خارج الصندوق! الحمدلله فرحت كثيراً لهذه الشهادة وهذه التجربة.
عدت إلى منزلي أرتب الأوراق المتناثرة استوقفتني عبارات وأسئلة كثيرة، لماذا الأطفال يصدقون والكبار ينكرون! أهي سذاجة أم أن عقولهم تتكيف بسرعة، لعل عقولهم مازالت غضة لم تتشكل في قالب واحد كما نريده نحن!! ولماذا أصبحت الآن شركات الشبكة العنكبوتية العملاقة حريصة على أن توجه خطابها للأعمار الصغيرة؟. ماذا لو.. رميت بحوض السمكة قطعة بيتكوين! بالتأكيد ستبدو أكبر وتلمع أكثر. هل سيشتري مني الطلاب؟ تعال معي أيها القارئ لنرجع ثلاثين سنة للوراء عندما كنا نحدث أجدادنا عن النت والفيس بوك والغرافيك واللوغو، كان جدي لا يصدق أن هذه الصور تكلفني مبلغاً وقدره، وإذا قلت له: أن اللوغو ثمنه غالياً.. ضحك كثيراً قائلاً: هذا الشيء التافه لا يساوي شيئاً ولا يستحق أن تدفع فيه فرنك.. ماكان أجدادنا يقولون عنه تافهاً ولا قيمة له.. لم يعد تافهاً! بل زادت قيمته في السوق! وكذلك زادت قيمة التسويق الالكتروني والويب ٣ والبلوك تشين، والمعادلة الأصعب عندما يقال لك أن المستقبل هو أن تمتلك على النت شيئاً أنت لا تملكه أصلاًً !! معادلة صعبة أليس كذلك؟ على سبيل المثال أنت الآن تملك حساب إيميل الخاص بك ولكنك حقيقة لا تمتلكه، بأي لحظة يستطيع غوغل أن يوقف حسابك، أنت تدفع ثمن موقعك الالكتروني وترفع عليه صور منتجاتك ولكنك حقيقة لا تملكه! وحتى قائمة الإيميل الخاصة بك لا تتكيف بها مطلقاً!! ثم يأتي من يخبرك إذا أردت أن تكون شريكاً في المستقبل لابد لك أن تمتلك قيمة رقمية على النت!! شاهدت مقابلة لجو روقان مع إيلون ماسك والأخير كان يتحدث عن سبب بيع جميع ممتلكاته العقارية، فقال "إن الإمتلاك يثقلني ويثقل حركتي، وأحزن جداً عندما أرى الناس تتهافت عليه وتحزن لفقدانه"، وبالنسبة إليه هو يحب فقط أن يمتلك ما له قيمة معنوية! ضحك منه جو روقان بملء فيه!!
عزيزي القارئ تصفح هذه المقالة مرة ثانية هل لاحظت الفرق بالكلمات بين البداية والنهاية، على الرغم من إن المشهد واحد وحوض السمك هو نفسه، في البداية كان خطابي موجه للكبار ومهارة الإصرار والإرادة والتفاؤل! وعندما وجهت خطابي للصغار تغيرت الكلمات، وتحدثت عن المستقبل والعملة الرقمية وأن علينا أن نكتسب مهارة الغوص والسباحة في النت قبل أن يستحوذ الآخرين علينا وعلى أطفالنا ونغرق في حوضهم؟ وفي الختام..وبغض النظر عن أعمارنا إذا كنت تريد أن تكون شريكاً حقيقياً للمستقبل، بات من الضروري أن تمتلك قيمة ما عالنت وعلى الأقل امتلك محتوى ذا قيمة، لا محتوى يهتم بالخلفيات الكبيرة وشفاه البطة.